لماذا لابدّ من صب اللعن على أعداء الإمام الحسين (عليه السلام)؟
والجواب العلمي لمثل هذا السؤال هو:
كما أن فطرة الإنسان لم تتشكل من المعرفة فقط بل من المعرفة والعواطف، فكذا الأمر في مجال العواطف والمشاعر، فهي لم تتشكل من العواطف والمشاعر الايجابية فقط, بل الإنسان موجود يتمتع بالمشاعر الإيجابية والمشاعر السلبية، بالعواطف الايجابية والعواطف السلبية؛ فكما الفرح موجود في أنفسنا فإن الحزن موجود فيها أيضاً. هكذا خلق الله الإنسان، أي انسان لا يستطيع أن يعيش بلا حزن وبلا فرح, فكما زودنا الله تعالى بالاستعداد للضحك فانه زودنا بالاستعداد للبكاء أيضاً, ففي المجال المناسب للضحك لابدّ أن يضحك الإنسان، وفي المجال المناسب للبكاء لابدّ أن يبكي, فتعطيل جانب من وجودنا يعني عدم الانتفاع من بعض نعم الله التي وفرها لنا.
إن السبب في أنّ الله تعالى خلق فينا الاستعداد للبكاء هو انه لابدّ من البكاء في بعض الموارد, ويجب علينا أن نبحث ونشخّص هذه الموارد, وإلاّ أصبح الاستعداد للبكاء لغواً في وجودنا. لماذا جعل الله هذا الإحساس في الإنسان بحيث يستولي عليه الحزن والغم وتجري الدموع من عينيه؟ فيُعلم من هذا أنّ للبكاء في حياة الإنسان دوره ومجاله المناسب.
إن للبكاء من الله ـ مثلاً ـ بدافع الخوف من عذابه او بدافع الشوق إلى لقائه دور في تكامل الإنسان, فهذه هي طبيعة الإنسان, إنّها تقتضي أن يرق قلبه في بعض الموارد وعندئذ تنهمر الدموع من عينيه.
لقد غرس الله تعالى في أنفسنا المحبة حتى نظهر الحب للذين يستحقون منا ذلك, كمن يسدي لنا خدمات أو كمن يتمتع بكمال ما، فالإنسان مشدود بفطرته إلى الكمال، سواء أكان كمالا جسمياً أم عقليا أم نفسيا أم عاطفياً، فإذا شعر الإنسان بوجود كمال أو صاحب كمال فإنه يحبه ويتعلق به, وعلاوة على هذا فقد جعل الله البغض والعداوة في نفس الإنسان في نقطة مقابلة للمحبة.
فكما أن الإنسان مفطور على أن يحب من قدم إليه خدمة، فهو مفطور أيضاً على أن يكره ويبغض من الحق به ضرراً.
وليس هناك ضرراً أبلغ وأشدّ على الإنسان من هدم دينه؛ إذ إنّ الأضرار المادية الدنيوية لا أهمية لها عند المؤمن؛ لأن الدنيا برمتها لا قيمة لها عنده, فالعدو الحقيقي للإنسان هو من يحاول أن يسرق من الإنسان دينه, والعدو الذي لا يدخر جهداً في أن يسلب من الإنسان سعادته الابدّية هل يمكن السكوت عنه؟ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (1) فهل يمكن الابتسام للشيطان؟
وهل يمكن الوئام والسلام معه؟
إذا تورط الإنسان في ذلك فسيصبح شيطاناً مثله.
إذا كان من الضروري المحبة لأولياء الله فانه من الضروري أيضا العداوة لأعداء الله, هكذا هي فطرة الإنسان، وهذا هو عامل تكامل الإنسان وسعادته, إذا لم تتحقق "العداوة" مع أعداء الله فإنّ سلوك الإنسان معهم يرق تدريجياً وتنشأ الصداقة فيما بينه وبينهم، ونتيجة لمعاشرته لهم سيتأثر بسلوكم وسيفتح قلبه وعقله لأقوالهم، ويغدو ـ شيئاً فشيئاً ـ شيطاناً مثلهم.
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (2), اذا رأيت أناساً يتحدثون عن الدين بصورة السخرية والاستهزاء وبطريقة مهينة فلا تقترب اليهم ولا تصغ إلى ما يقولون حتى ينتقلوا إلى موضوع آخر.
وفي آية كريمة أخرى يقول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(3).
فمن يحب الذين يستهزؤون بالدين ويبتسم في وجوههم فان كلامهم سيؤثر فيه تدريجياً ويخلق الشك في نفسه، وعندئذ يصبح اظهاره للإيمان نفاقاً؛ إذ إنّ النفاق هو أن لا يكون الإيمان في قلب الإنسان ولكنه في الظاهر يدعي أنه مؤمن, فواحدة من النتائج التي تلحق المرء بركب المنافقين هو الوئام معهم, وإذا أصبح المرء منافقاً في الدنيا بسبب مجالسته ومعاشرته للكافرين فإنه في الآخرة سوف يكون رفيقهم في جهنم: (إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً).
وبعبارة أخرى: إنّ العداوة مع الأعداء هي نظام دفاعي في مقابل الاضرار والمخاطر، فكما أنّ جسم الإنسان مزود بعامل الجذب يجذب المواد النافعة، فإنّه مزود أيضا بنظام دفاعي يطرد السموم والجراثيم، ويقاومها ويقضي عليها, وهذه هي مهمة الكريات البيض في الدم, أما إذا أصيب النظام الدفاعي للبدن بالضعف فإن الجراثيم تنمو وتستفحل، ويؤدي ذلك إلى اصابة الإنسان بالأمراض، ولعله بالتالي يواجه الموت.
فإذا قلنا: إنّ دخول الجراثيم إلى بدن الإنسان لا مانع منه, ورحبنا بها على أساس أنّها ضيف كريم يجب احترامه؛ فهل يبقى البدن سالماً في هذه الحالة؟
إنّ الإنسان العاقل لا يمكن أن يتصرف بهذه الصورة، إذ لابدّ من القضاء على الجراثيم, هذه سنة الهية، فقد أخذت الحكمة الإلهية بعين الاعتبار نظامين لكل موجود حي، احدهما نظام للجذب والآخر نظام للطرد، فكما أن جذب المواد النافعة ضروري لنمو كل موجود حي فان طرد السموم والمواد الضارة من البدن أمر ضروري أيضاً, ولو لم يطرد الإنسان السموم من بدنه فانه لا يستطيع أن يستمر في حياته.
إنّ في بدن الإنسان والحيوان أجهزة ـ مثل الكلية والمثانة وغيرهما ـ تقوم بهذه المهمة بشكل طبيعي, وتطرد المواد الضارة إلى خارج البدن, وفي بعض الاحيان تهاجم البدن جراثيم من الخارج، فهنا تنشط الكريات البيض في الدم وتتصدى لها وتقاومها وتقضي عليها ثم تطردها خارج البدن, وكذا الأمر في روح الإنسان فلابدّ من وجود مثل هذا الاستعداد فيها، لابدّ من وجود عامل جذب نفسي فيها حتى يأنس وينجذب لكل من ينتفع من وجوده، فيحبه ويتقرب إليه، ويكتسب منه العلم والكمال والأدب والمعرفة والأخلاق.
فلابدّ من إظهار المحبة للناس الطيبين الذين هم منشأ للكمال، ولهم تأثير ضخم في تقدم المجتمع وازدهاره.
وفي المقابل لابدّ من إظهار العداوة عملياً لمن يلحقون الضرر بمصير المجتمع, قال الله تعالى في القرآن الكريم: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)(4).
فإن الله تعالى أمرنا بالتأسي بإبراهيم وأصحابه, ونحن نعلم أن لإبراهيم (عليه السلام) مكانة رفيعة في الثقافة الإسلامية، فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاته يصرح بانني تابع لابراهيم، والإسلام هو الاسم الذي أطلقه إبراهيم (عليه السلام) على هذا الدين, يقول تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ)(5), فماذا كان يفعل إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه؟ كانوا يعادون عبدة الاصنام ويطردونهم ويعلنونها بوجوههم: (إِنَّا بُرءاؤا مِنكُمْ), ولا يكتفون بالبراءة منهم بل يقولون لهم: بدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، إلا إذا توقفتم عن الخيانة.
ونحن اذ نعلن العداوة والبغضاء للشيطان الأكبر وأعداء الإسلام فهذا إنّما هو تأس بإبراهيم (عليه السلام)، فقد أمرنا القرآن الكريم بالتأسي بإبراهيم (عليه السلام) بعداوتنا لأعداء الدين, فالإنسان العاقل لا يوزع الابتسامات في كل آن ومكان، بل لابدّ له أن يعبس في وجوه البعض ويقولها صريحة له: أنا عدوك وليس بيني وبينك سلام إلا إذا كففت عن خيانتك، هذا هو أمر القرآن.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن فروع الدين عشرة، وبعد "الأمر بالمعروف" و " النهي عن المنكر" يعدّ من فروع الدين "التولي" و " التبري", أيّ من جملة الواجبات التي لابدّ أن يهتم بها جميع المسلمين ويعملوا بمضمونها هو أن نحب أولياء الله وأن نعادي أعداء الله أيضاً. ولا يكفي محبة أولياء الله، فاذا لم تكن العداوة لاعداء الله فإنّ المحبة للأولياء سوف تزول وتضمحل، فلو انعدم النظام الدفاعي للبدن فإنّ نظام الجذب سوف يتعطل أيضاً.
والشيء المهم هو أن نعرف بدقة مجالات الجذب والطرد, فقد تختلط الأمور في كثير من الأحيان, إذ في المورد الذي لابدّ أن نقوم فيه بالجذب, فإننا قد نخطئ ونستخدم الطرد، فمثلاً لا ينبغي معاداة الشخص الذي أخطأ في القول عن جهل، وزلت قدمه ثم ندم واعترف بخطئه عند بيانه له، إنّ مثل هذا الشخص لا ينبغي معاداته ولاينبغي طرده من المجتمع، بل لابدّ من التصدي لاصلاحه، فهو مريض لابدّ من معالجته, وفي مثل هذا المورد لا يتم اللجوء إلى العداوة، نعم إذا كان الشخص متعمداً, ويشيع المعصية في المجتمع بشكل علني فأن هذه خيانة لابدّ من التصدي لها واعلان العداوة لصاحبها، اما اذا ارتكب الشخص الذنب خطأ فلابدّ من التعامل معه برفق ومودة، ولا يجوز هتك حرمته واسقاط شخصيته، بل لابدّ من السعي لاصلاحه، لأنّه يعاني من مشكلة ويجب حل مشكلته.
أما أعداء الدين فيجب علينا أن نتعامل معهم بكل غضب وعنف وأن نعبس في وجوههم.
وخلاصة كلامنا هو: إنّ إحياء ذكرى سيد الشهداء هي إعادة لصياغة الحياة الحسينية، وذلك لننتفع بتلك الحياة الكريمة على أحسن نحو، ولا ينبغي الاكتفاء بالدراسات العلمية، لأن الإنسان بحاجة إلى استثارة عواطفه ومشاعره، ولا ينبغي الاقتصار ايضا على العواطف الايجابية كالفرح والسرور والضحك والابتسام، وذلك لأن احياء ذكرى سيد الشهداء (عليه السلام) ومظلوميته لا يتيسر إلا عن طريق مشاعر الحماس و الحزن والبكاء والحداد.
ومع إرسالنا لآلاف التحية والسلام للإمام الحسين (عليه السلام) ولتراب قبره الطاهر فإننا نرسل آلاف اللعن لأعداء الحسين (عليه السلام)؛ أعداء الله والإسلام, والسلام وحده لا يحل المشكلة، لأننا لا نستطيع أن ننتفع من بركات الحسين (عليه السلام) إلا إذا قمنا باللعن ـ أولاً ـ لأعدائه، ثم نرسل إليه التحية والسلام. والقرآن يذكر ـ أولاً ـ في صفات المؤمنين من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ)(6) ثم يقول: (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)، فلابدّ من وجود اللعن إلى جانب السلام، ولابدّ من اظهار التبري والعداوة لاعداء الإسلام إلى جانب التولي لأولياء الله, إذا كنا بهذه الصورة فنحن حسينيون، وإلا فإنه لا ينبغي أن نلصق أنفسنا بالحسين (عليه السلام) من دون استحقاق.