إنَّ قضية عاشوراء التي سوف أتحدث عنها ـ بمقدار سطر من سجل كبير ـ لم تكن واقعة تاريخية بحتة، بل هي ثقافة وحركة مستمرة, وقدوة خالدة للأمة الإسلامية
2: إنَّ لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ثلاث عناصر هي: المنطق والعقل، والحماسة المشفوعة بالعزة، والعواطف.
3: لقد كانت زينب الكبرى (عليها السلام) تخطب في الكوفة والشام خطباً منطقية، إلا أنها في نفس الوقت تقيم مآتم العزاء، وقد كان الإمام السجاد (عليه السلام) بتلك القوة والصلابة ينزل كالصاعقة على رؤوس بني أمية عندما يصعد المنبر، إلا أنه كان يعقد مجالس العزاء في الوقت نفسه.
4: ذكرى عاشوراء ليست مجرّد ذكر لبعض الخواطر والذكريات والأحداث فقط. وإنّما هي تبيان لحادثة في غاية الأهمّية ولها عدد غير محدود من الأبعاد والجوانب التي تركت أعمق الآثار في حياة الأمة الإسلامية على مرّ التاريخ
5:الهدف من ثورة الحسين هو الوقوف بوجه الظلم والطغيان
وقد تحمّل الحسين (ع) من أجل هذا الهدف المقدّس أشقّ أشكال الجهاد والصراع من أعداء الله؛ لأنّ أشقّ أشكال الكفاح هو الكفاح في الغربة. فالاستشهاد والقتل بين الأهل والأحبّة ووسط تشجيع عامة الناس ليس بالأمر المستصعب جدّاً.
6: والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الفائدة التي يجب أن تجنى من هذه الذكرى ومن هذه المجالس؟ وما هو الطريق لشكر هذه النعمة؟
أما الجواب على هذه الأسئلة وأمثالها فهو ملقى على عاتقكم أنتم.
فهذه النعمة الكبيرة هي التي تربط القلوب بمنابع الإيمان بالله وبالغيب مباشرةً،
وهي التي جعلت الحكّام الطواغيت على طول التاريخ يرتجفون خوفاً وفزعاً من عاشوراء ومن قبر الإمام الحسين (ع). فقد بدأ هذا الخوف منذ زمن بني أمية وتواصل الى يومنا هذا. 7:
و نظرنا الحادثة منذ أن خرج أبو عبدالله (ع) من المدينة وتوجّه نحو مكّة إلى أن استُشهد في كربلاء، لأمكننا أن نقول إنّ الإنسان يستطيع عدّ مائة درس مهمّ في هذا التحرّك الّذي استمرّ أشهر معدودة فقط. ولا أودّ القول آلاف الدروس وإن أمكن قول ذلك حيث تعتبر كلّ إشارة من ذلك الإمام العظيم درساً، لكن عندما نقول مائة درس أي لو أردنا أن ندقّق في هذه الأعمال لأمكننا استقصاء مائة عنوان وفصل، وكلّ فصل يعتبر درساً لأمة وتاريخ وبلد ولتربية النفس وإدارة المجتمع وللتقرّب إلى الله.
8:
لا يمكننا القول: إنّ الحسين (ع) ثار لأجل إقامة الحكومة، ولا أن نقول: إنّه ثار لأجل أن يستشهد. وإنّني أتصوّر أنّ القائلين بأنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف والنتيجة. فالهدف لم يكن ذلك، بل كان للإمام الحسين (ع) هدف آخر، كان الوصول إليه يتطلّب طريقاً وحركة تنتهي بإحدى النتيجتين: الحكومة أو الشهادة، وكان الإمام مستعدّاً لكلتا النتيجتين، فقد أعدّ مقدّمات الحكم وكذا مقدّمات الشهادة، فإذا تحقّق أيّ منهما، كان صحيحاً، لكن لم يكن أيّ منهما هدفاً، بل كانا نتيجتين.
9:
الحسين (ع) قد ثار وأدّى' هذا الواجب عمليّاً ليكون درساً للجميع، وقد تتوفّر الظروف المناسبة لأي أحد للقيام بهذا العمل على مرّ التاريخ، طبعا الظروف لم تكن مواتية في عصر سائر الأئمة (عليهم السلام) من بعد الإمام الحسين (ع)
10:
جميع الأكابر والخواص من أنصار الحق، أي الذين لم يكونوا إلى جانب الحكومة الأموية ولم يدخلوا جبهة الباطل، وحتى من بينهم الكثير من الشيعة الذين يقرّون بامامة أميرالمؤمنين (ع) ويعتبرونه الخليفة الأول شرعاً، هؤلاء بأجمعهم حينما أحسوا ببطش السلطة الحاكمة، تخاذلوا رغبة في الحفاظ على أنفسهم وأموالهم ومناصبهم. ونتيجة لتخاذل هؤلاء، مال عوام الناس إلى جانب الباطل.
11
رغم كثرة الكلام حول الفوائد القيّمة لشهر محرم ويوم عاشوراء وآثار هذه الظاهرة العظيمة، لكن كلّما مرّ زمان عليها كلّما تجلّت الصورة الخالدة لهذه الشمس النّيرة أكثر ــ والتي يمكن أن نُطلق عليها شمس الشهادة، شمس مظلومية وغربة الجهاد والتي توقّدت بواسطة الحسين بن علي (ع) وأصحابه ــ ، وعُرفت بركات عاشوراء أكثر. فقد ظهرت الآثار العميقة والأساسية لهذه الحادثة تدريجياً منذ اليوم الأوّل لوقوعها، فعرف البعض بوظائفه منذ تلك الأيّام، فقامت حركة التوّابين، ووقعت حوادث الجهاد الطويل لبني هاشم وبني الحسن عليهم السلام ،
12:
لم يكن للإمام (ع) أدنى أمل بمن هم خارج ميدان القتال المليء بالمحن، فما كان موجوداً فهو في ميدان القتال فقط. والأمل مقتصر على هذا الجمع، والجمع مسلّم للشهادة، وبعد الاستشهاد لا يقام لهم مجلس فاتحة حسب الموازين الظاهرية، فيزيد متسلّط على كلّ شيء ، وتُساق نسائهم أسارى ولا يُرْحَم أطفالهم «لا يوم كيومك يا أبا عبدالله» فلولا الإيمان والإخلاص والنور الإلهي في قلب الحسين ابن علي (ع) والذي بعث الحرارة في قلوب الصفوة المؤمنة حوله لما تحقّقت تلك الواقعة، فانظروا الى عظمة هذه الواقعة.
13:
إنَّ مجالس العزاء مستمرة الى يومنا هذا، ولابد أن تستمر الى الآبد؛ لأجل استقطاب العواطف، فمن خلال أجواء العاطفة والمحبة والشفقة يمكن أن تُفهم كثير من الحقائق، التي يصعب فهمها خارج نطاق هذه الأجواء.
14
إن نظرنا إلى واقعة عاشوراء وأحداث كربلاء، فمع انها ساحة قتال وسيف وقتل، لكنكم ترون الحسين (ع) يتكلم ويتعامل بلسان الحبّ والرضا والعرفان مع الله تعالى، آخرُ المعركة حيث وضع خدّه المبارك على تراب كربلاء اللاهبة، تراه يقول: «إلهي رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك»، وكذا حين خروجه من مكّة يقول: «من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا». كل قضية كربلاء ترون فيها وجه العرفان والتضرع والابتهال. اقترن خروجه ذاك بالتوسل والمناجاة وأمنية لقاء الله، وبدأ بذلك الأندفاع المعنوي المشهور في دعاء عرفة، إلى أن انتهى به المطاف في اللحظة الأخيرة، إلى حفرة المنحر حيث قال: «ورضاً بقضائك».
__________________